(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا) (البقرة/ 256). (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7).
النّاس متفاوتون بقابليّاتهم وإمكاناتهم الذاتية والاجتماعية.. فالنّاس متفاوتون في الذّكاء والإرادة والقوّة البدنية، والتركيب النفسي والوجداني... إلخ. كما أنّهم متفاوتون أيضاً بإمكاناتهم الاجتماعية التي حصلوا عليها من خلال وضعهم الاجتماعي، كالعلم والمال والسّلطة والمكانة الاجتماعية، وكثرة الأهل والعشيرة والأعوان والأتباع.. والناس بطبيعتهم يختلفون في طريقة تفكيرهم وتعاملهم مع الآخرين، وكيفية توظيفهم لما يملكون من طاقات وإمكانات ذاتية واجتماعية.. فمن الناس مَن يحمل في نفسه روح المحبّة والتّواضع، والعفو والتّسامح، وحبّ الخير للجميع والرّغبة في البناء والإصلاح.. ومن الناس مَن يتعامل بروح العدوان والاستعلاء، والأنانية وعبادة الذات والطّغيان ويعمل على الهدم والتّخريب.. والحياة في نظر القرآن الكريم بناء إنساني يقوم على أساس الحقّ والعدل والمساواة واحترام الإنسان.. من بياناته المؤسِّسة لهذا المنهج قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90). (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء/ 105). ولا تنتظم الحياة إلّا إذا تعايش الناس فيما بينهم على أساس الشعور بالعدل والمساواة، وإلّا إذا وجد العدل، واحترم كلّ إنسانٍ حقوق الآخرين.. والتزم حدوده، ولم يتجاوز على غيره، وذلك ما كان يوصي به الإمام عليّ (عليه السلام) ابنه الحسن (عليه السلام) ويُثبِّته منهجاً وشريعةً للحياة، قال (عليه السلام): «يا بُنيّ اجعَلْ نَفسَكَ ميزاناً فيما بَيْنكَ وبَيْنَ غيرِكَ، فاحْبِب لِغَيْرِكَ ما تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، واكْرَهْ لَهُ ما تَكْرَهْ لَها». ويُسمِّي القرآن القانون والنِّظام حدوداً، لأنّها تُحدِّد الأشياء، وتُشخِّص أحكام الموضوعات بحدودها وتعريفاتها الواقعية، وبها يعرف كلّ إنسان ما له وما عليه.. نأخذ لذلك مثلاً حديث القرآن الكريم عن أحكام الطّلاق والمواريث والوصيّة والدَّيْن وقوانينها، إذ يصفها بقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/ 229). ويوضِّح الإمام الصادق (علیه السلام) مفاهيم التحديد والتقنين في القرآن الكريم بقوله: «إنّ اللهَ تباركَ وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزلهُ في كتابهِ وبيّنهُ لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكلِّ شَيءٍ حَدّاً، وجعلَ على مَنْ تعدّى الحدّ حدّاً».
إنّ مأساة البشرية وأزماتها الكُبرى فهي من الطّغاة والطّغيان، فيطغى صاحب المال بماله، ويطغى صاحب السّلطة بسلطته، ويطغى صاحب القوّة بقوّته، ويطغى صاحب الأهل والعشيرة بأهله وعشيرته، ويطغى صاحب العلم بعلمه... إلخ. إنّ كلَّ هؤلاء يُسخِّر ما عنده من إمكانيات لإذلال البشرية والسّيطرة عليها واستعبادها، وليس لحماية حقوق الإنسان، وإقامة الحق والعدل، وبسط الأمن والسّلام في ربوع الأرض.. فيتحوّل هذا الإنسان المتمكِّن إلى طاغوتٍ فكريّ وأيديولوجي أو إلى طاغوت مُستبدّ بسلطته وقوّته، فيبطش بالآخرين ويذلّهم، ويتجاوز على حقوقهم وكراماتهم وممتلكاتهم بسلطته وسلطانه وقوّته.. والقرآن يستنفر كلّ القوى الخيِّرة، ويدعو البشرية إلى أن تكفر بالطاغوت، وترفض الطّغيان، وتبتعد عنه وتحشد جهودها وقواها لتحطيم الطاغوت والطاغية وإنقاذ البشرية، وتحريرها من سطوته وسلطانه.. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256). ولنُشخِّص مع القرآن وهو يتحدّث عن هذه الظاهرة الشِّرِّيرة والعدوانية في المجتمع أنّ القرآن تحدّث عن طغيان الإنسان في أوّل آياته التي خاطبَ بها البشرية، ليُشخِّص مَن هم خصوم الدّعوة الإسلامية وعقيدة التوحيد ورسالة الحقّ والعدل والكرامة الإنسانية.. جاء هذا البيان في سورة العلق بعد الآيات الخمس الأُولى التي خوطبَ بها النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).. وهي ما نزل من القرآن في غار حراء: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ* كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 1-7).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق